أنت المشاهد رقم

الخميس، 24 يوليو 2014

الشاعر عمر بهاء الدين الاميري مغربيا عبد الكريم الدخيسي

بسم الله الرحمن الرحيم
الشاعر عمر بهاء الدين الاميري مغربيا
وقفة مع كتاب :
''لقاءان في طنجة '' تاريخ..و فكر ..و شعر



                                                                                          عبد الكريم الدخيسي *

نعم ذلك واقع، لأن شاعر الإنسانية المؤمنة الكبير الدكتور عمر بهاء الدين الأميري [1] أقام في المغرب زمنا طويلا بلغ أكثر من عقد و نصف - على الأقل - ، و كان أستاذا لكرسي الإسلام  و التيارات المعاصرة في دار الحديث الحسنية بالرباط ، كما درس الحضارة الإسلامية في جامعة محمد الخامس بالرباط أيضا، فما المانع أن يكون مغربيا ؟!!
للشاعر كتاب بعنوان : لقاءان في طنجة  - تاريخ ..و فكر .. و شعر ، نشرته مؤسسة بنشرة للطباعة و النشر – الدار البيضاء ، عدد صفحاته 108 صفحة  من الحجم المتوسط .
و الكتاب فيه شيء من التاريخ و قليل من الفكر ، و كثير من الشعر .يقول الشاعر في بداية حديثه :''و الفكر، حين يتألق      ويتفتق ... شعر ... و الشعر ، حين يتعمق  و يتفوق ... فكر'' [2] .
و الذي يهمنا هنا عاطفة الشاعر الوطنية الجياشة التي فاضت بمناسبة إحدى المناسبات الوطنية [3] ، وقد اختلط فيها الجهاد بالنضالات بالذكريات بالصرخات التي ما تزال تتردد في أعماق التاريخ تستنهض الهمم المعاصرة ، لاسترداد البقاع المغتصبة في أرجاء الوطن الإسلامي :
 يا بنـي العــرب هل تـرون وراء        الغيب ، دربا ما عـاد بالمســـدود     
          صرخات الجهـاد في جنبات الكــون تلقى منا حفــــــي الـردود
           في ترامي الأصقـاع تسمــــع                    "لبيك" صدى من نجودنا و الوهــود [4]
و يستحضر شاعر الإنسانية الفتوح الإسلامية ، بل يربط بها الأحداث التي تمر بها الأمة الإسلامية ، و يقول بأن الأخيرة ضرب من ضروب الفتوح ، بل هي ممهدة لها :
 إن أحداثنا الجسام لضــرب                 من ضروب الإرهاص و التمهيد
و سيوف الفتوح بعد ركـود                    تتمطى نصولها في الغمـــود   ...
سنة الله قد خلت في الطواغيت              قديما من قبل خلق  ثمـــود
و ستبقى ما دام في الكون بغي               فترقب ،يا شعب ،صدق الوعود [5]
          لقد كان الشعب في مستوى المسؤولية الملقاة على عاتقه ، و كانت الحركة الوطنية في الموعد ، و كانت الثورة الشعبية التي توجت بالاستقلال الذي ناله المغاربة في 18 نونبر 1955 .
          إن مصير الظلم إلى زوال ، و مصير الاستعمار إلى اندحار ، و قد درست آثار الكثير من الإمبراطوريات المتجبرة عبر التاريخ الطويل للإنسانية .
          و قد سجل الشاعر الثورة المغربية ضد المستعمر الغاشم ، و رفض المغاربة خلع سلطانهم ، و هو حينذاك  محمد الخامس [6] في أبيات جميلة في ذات القصيدة نقتطف منها :
خلع السلطان و السلطان طود لا يزعزع                  
من يكن في كل قلب عرشه هيهات يخلع
و إذا المغرب بحر غاضب لا يستقـــر           
و إذا الثورة في الشعب جهاد مستحـرّ
و تتالى موكب المجد ، يضم الشهــداء
عزمات و دماء ، هاجها ثأر الدمــاء
و دنى الإسلام كالبركان يغلي و يفـور
فهنا شعب يلبي ... و هنا شعب يثور[7]
          و في اللقاء الذي نظمته إحدى الجمعيات الناشطة في مدينة طنجة أنشد الشاعر الحاضرين قليلا من 'الروضيات'[8] ...قصائد النجاوي المحمدية ، على حد تعبير الشاعر ، و هي أبيات تفيض إيمانا و حبا في المصطفى عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم ، و ابتهاجا بزيارة الروضة الشريفة ، و البيات من بواكير شعره النبوي :
دخلت ، و قلبي قد طار مـــني                 و لكنه عاد لما دخلــــــت
دخلت الرحاب و أسلمت نفسـي              إلى تلف الوجد حتى سلمـــت
و كان المقام العظيم العظيـــم                   عليه يخيم نور و صمــــت
فطوف بي من جلال الرســول                  ذهول ...فهمت.. و همت ..وهمت
شعرت كأن السماوات أرضــي                  و أني عليها بروحي سجــدت[9]
إنه سجود الروح لا الوجه ، و لا الجسد ، الروح التي تعرج إلى باريها عندما تجد المقام الذي طالما تمنت الوصول إليه ، إنه معراجها،  لذلك كان المقام عظيما عظيما ، و كان الهيام طويلا طويلا ، و التكرار هنا للمبالغة ، لقد عرجت الروح إلى باريها في  السماوات العلى رغم أنها سجدت في الأرض ، لم تبارحها لحظة واحدة ، و لكنه جلال المقام و جلال الزمان ، حيث الصمت يخيم على المكان النوراني ، الذي تفيض عليه سبحات ربانية تزيده جلالا و إكراما .
و لا يريد العابد الساجد في الحضرة الربانية  مغادرة المكان ، بل يستزيد و يتمنى لو أطال الإمام السجود ، بل يتمنى لو لم يرفع من سجوده ، حتى لا تفارق صاحبنا لحظات اللقاء مع ربه و يعتب على الإمام إذا قطع عليه لحظات الوصال ، لأنه في لحظات الهيام القلبي بين السماوات و الأجرام ، لأنه إن فعل ، إنما يجتث قلبه من مكانه:
فاتئد يا إمام ، لا ترفع الرأس                  سريعا ، تكاد تجتث قلبي ...[10]
إنه التماهي في الزمان و المكان ، و الذوبان في الفعل الذي يقوم به . إن السجود كما التوجه إلى الكعبة المشرفة أثناء الصلاة ..أي صلاة  !! و في الصلاة ، و منها السجود نتوجه بقلوبنا تجاه الكعبة ،  إنه ليس مجرد إقبال على بيت و منطقة من أرض ، لمجرد مكانها المعين من خطوط الطول و العرض ...إنما
                                 الكعبة الشماء في مذهبـــي               قيمتها ليست بأحجارهــا
                                 و القرب من خالقها ، ليـس في         تشبت المرء بأستارهـــا...
                                 قدسية الكعبة ، في جمعهـــا              أمتنا ، من كل أقطارهــا
                                 و أنها محور أمجادهــــــا         و أنها مصدر أنوارهـــا
                                و كعبة المؤمن في قلبـــــه        يطوف أنى كان في دارهــا[11]
و كيف لا و هي محور الكون بله محور أمجاد الأمة الإسلامية ، فكيف لا تهفو قلوب المؤمنين إلى زيارتها و الطواف حولها كل حين .. كيف لا و البيت المعمور في السماوات العلى بإزائها .. كيف لا و الله سبحانه و تعالى يباهي بالمطوفين بها الملائكة في الملأ الأعلى . من هنا تأتي القدسية . و من هنا سعي المؤمنين إلى حج البيت الحرام و الصلاة فيه و تقبيل الحجر الأسود - الذي قبله الرسول المصطفى عليه السلام و أزكى الصلاة – حيث يستمد المرء طاقة روحية لا تغادره أبدا إلا إن كان من الأشقياء . أما إن كان من العشاق الذين يعشقون الجمال و يتذوقونه، فإنه حينئذ يوقد قناديل النور الرباني في قلبه ، يستنير بها في ظلمات الجهل المحيطة ، و المنتشرة في كل مكان ، للعبور إلى الله في طريق العاشقين الوالهين :
ليس بالعاشق من توقده اللذات وقـدا
إنما العاشق من يحمل عبء الوجد جلدا
إنه باعث أكوان بها يمضي مجـــدا
همه المجد ، فلا عشق إذا لم تجن مجـدا[12]
و قد تعرضت الأمة الإسلامية -و ما تزال-   في الكثير من المواقع للعديد من النكبات، ما لو تعرضته أمة أخرى لصارت في خبر كان، و لكن الله سبحانه و تعالى وعدها بالابتلاءات، و وعدها بالنصر المبين على أعدائها، إن هي صبرت على ما ابتليت به،   و أقامت الدين و نصرت الله جل في علاه.
و يغوص بنا الشاعر قليلا في التاريخ ، و للإشارة فقد افتتح الكتاب الذي بين أيدينا بشيء من التاريخ الحديث للمغرب[13].     و يشير إلى ما ابتليت به بلاده سوريا من حكم الطغاة ، و يسجل الأحداث الدامية التي تعرض لها الإسلاميون  في حماة و دمشق و غيرها  من المدن في الثمانينيات من القرن الماضي في قصيدة بعنوان "نجاوي سجينة" و التي مطلعها :
    توزع فكري ، فلا يستقـر               على أن أعماق روحي سكينـه

 يقول - رحمه الله -  :
     أيا رب، "أمتنا"قد رماهــا               بنوها بشدق الرزايا رهينــــه
                                    بحرمة عهدك: "حقا علينـا"        و قد قلت َ:"كنتم" فكانت قمينـه
                                    أجرها و أنجد ، فإن لم تجرها              فمنذا يجير ...وينجد دينــــه؟
    و ألهم بنيها هداهم ، و ثبت            خطى سيرهم في دروب رصينــه
                                    و حقق لهم صفة "المؤمنيـن"     و ضع عهدهم في رقاب أمينــه
                                    و خذ أخذة القصم من رماهم              و دينك ، بالبغي ، و اقطع وتينـه[14]
و لا شك أن الشاعر رحمه الله تعالى ينفث شعرا، بل نارا تنبعث من أعماقه..لأنه يتحدث بما لم تستطعه الأرامل و الأيامى      و الأطفال اليتم الذين أصابهم القرح ، في ذلك الزمن المر، الذي ما يزال مثل ما حدث في حماة ، يسام على كثير من العباد في الأمة الإسلامية ، في الكثير من البلاد التي ابتليت بطواغيت من ورق سلطهم الاستعمار عليها ، فجثمت على صدور أهلها و سقتهم من الذل   و الهوان ما تعجز عن وصفه الألسن و الأقلام . فرحم الله شاعرنا .
إن هذه الأحداث و مثيلاتها هي  التي تقعد الشاعر المرهف عن العمل  ، و تجعله طريح الفراش لأيام قد تطول ..يقول :
  و الهم – يا للهــم -  فـي                       قلبـي  له وخز الرمــــاح
                          قالـوا : عليل ، قلت : بــل                     و الله تثخننـي جــــراح
                          أنا في الجهـاد أخــــوض                          للإيمـان معترك َ الكفـــاح
 أنا في فلسطين الطهــــور               مـع "الفـداء"[15] بكل ساح
                                       أنا نجـدة "الصحــراء "[16]                          و"الوادي "[17] ... أنا روح مباح[18]
   ...          قلبي العليل  هناك يكــدح                      في الهضاب و في البطــــاح
                        قد يرتمي جسمي ضنـــى ً                        و العزم لا يرمي الســـلاح [19]
       إنها العزيمة ، و الهمة العالية التي لا تروم راحة رغم المرض و الوهن الذي قد يصيب الجسم ، هي التي تحرك الساكن البشري ، و إنه التفاعل مع الأحداث الجسام ، بل التماهي فيها ، و هو يعمل بحديث النبي r: '' مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم  و تعاطفهم ،مثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى  '' [20].
و قد أجاب من علق على هذه العاطفة القوية بقوله :
    هل يستريح الحر يوقــر                      صدره العبء الــرزاح
    يده مع المسكيـــن في             الأرضين ، تسلكه النجاح
    و جنانه ، خفق المنى العليا                 بمنبلج الصـــــلاح
    و مدى تطلعه معــارج             من سناً ، فوق الطمــاح [21]
إنها الهمة العالية في شموخ و التي تأبى إلا التطلع إلى السماء العالية و ما عند الله تعالى ، و ذلك ديدين الأنبياء و الصالحين            و الصحابة المجاهدين .. و قد كان سلفنا الصالح ذوي نفوس طموحة تواقة إلى المعالي ترفض الدون ، و لا يسمح المقام بسرد قصصهم هنا .إن لقاء الله تعالى هو علاج ما بشاعر الإنسانية المؤمنة الرقيق من أدواء :
    هل في علاجك ما يغـذ                    خطاي أستبق الصبــاح؟
  الله جل شفـــــاؤه                     روحي و ريحاني .. و راح[22]
                                      حرر بمكناس يوم فاتح ربيع الأول 1429هـ




*  ثانوية النهضة التأهيلية مكناس - المغرب
[1] ) ولد و نشأ و أنهى الدراسة الثانوية في حلب سوريا في الآداب و العلوم و الفلسفة .و قد درس الأدب و فقه اللغة في كلية الآداب و العلوم الإنسانية بجامعة السوربون ، و الحقوق في جامعة دمشق .كما درس علوم الاجتماع و النفس و الأخلاق و التاريخ و الحضارة في حلب و دمشق . و تولى إدارة المعهد العربي الإسلامي  في دمشق . أسهم في انطلاقة العمل الإسلامي المعاصر، و اتصل بكثير من مراكزه،    و تولى بعض مسؤولياته. شارك في الدفاع عن القدس مع جيش الإنقاذ خلال حرب فلسطين عام 1379/1948. مثل سوريا وزيرا و سفيرا في باكستان و السعودية و كان سفيرا في وزارة الخارجية السورية . أسهم في تأسيس حركة'سورية الحرة' و كان رئيس الجانب السياسي فيها عام 1384/1953. اهتم بالقضايا الثقافية و السياسية في العالمين العربي و الإسلامي . و حضر العديد  من مؤتمراتها و لقي كبار  علمائها و رجالاتها    و مؤسساتها. في سنة 1386 دعي إلى المغرب أستاذا لكرسي الإسلام و التيارات المعاصرة بدار الحديث الحسنية بالرباط  التابعة لجامعة القرويين . و استمر في ذلك زهاء خمسة عشر سنة . كما درس الحضارة الإسلامية في كلية الآداب و العلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط. و قد كان كذلك أستاذا زائرا في الكثير من جامعات العالم الإسلامي من الجزائر إلى اندونيسيا . و قد كان عضو المجمع العلمي العراقي و المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية في الأردن.
نظم الشعر منذ بواكير عمره . و طبع أغلب أثاره الشعري و الفكري و ترجم بعض شعره إلى لغات إسلامية و غربية . و أنجزت حول شعره بحوث و دراسات جامعية  و يعرف في الأوساط الأدبية ب''شاعر الإنسانية المؤمنة'' .
توفي رحمه الله تعالى بالرياض بالمملكة العربية السعودية سنة 1413هـ - 1992م.
[2] ) الأميري ، لقاءان في طنجة : 44.
[3] )  هي ذكرى 'ثورة الملك و الشعب' التي يخلد فيها المغاربة ذكرى ثورتهم احتجاجا على نفي الاستعمار الفرنسي السلطان محمد الخامس سنة 1953 .
[4] ) لقاءان في طنجة : 45.
[5] )  نفسه :45-46.
[6] ) محمد الخامس  ( 1909- 1961م) سلطان (1927-1957) ثم ملك المغرب (1957-1961) .
[7] ) لقاءان في طنجة :46.
[8] ) نسبة إلى الروضة الشريفة في المدينة المنورة ، و المقصود عنده قصيدة المديح النبوي .
[9]  )  نفسه : 49 .
[10]  )  نفسه :  50.
[11] )   نفسه :  56.
[12] )   نفسه :57.
[13] )  يتعلق الأمر بالزيارة التاريخية التي قام بها السلطان محمد الخامس لطنجة و الخطاب التاريخي الذي ألقاه بها يوم الجمعة 20 جمادى الأولى 1322هـ الموافق لـ11 ابريل 1947.
[14] )  لقاءان في طنجة : 63.
[15] ) يقصد حركة المقاومة في فلسطين المحتلة من قبل الصهاينة .
[16] ) الصحراء المغربية التي ما تزال ذيول الاستعمار تنهك الوطن الأم بمشكلتها .
و قد قال في موضع آخر من الكتاب نفسه :
  سنوالي جهادنا في ''فلسطين''                 نقيم الصلاة في ''أقصـــــــانا''
و نرد ''الصحراء للوطن الأم                  جهادا، نحمي بذاك حمانــــا
....
             حين تمضي ''مسيرة السلـــم                  خضراء'' خطانا حفية لا تدانى
            فإذا الحرب قدرت ، في سبيل                 الله ، خضنا غمارها بدمانـــــــــا
في إشارة إلى المسيرة الخضراء التي قام بها المغاربة تجاه الصحراء لتحريرها من الاستعمار الإسباني و التي كانت بتاريخ 06 نونبر 1975 ( ينظر لقاءان في طنجة :89) .
[17] ) وادي الذهب أحد أقاليم الصحراء المغربية.
[18] ) لقاءان في طنجة : 79- 80.
[19] ) نفسه :82.
[20] ) متفق عليه .( البخاري في الأدب (بابرحمة الناس و البهائم ) (10/367) و مسلم في البر و الصلة (باب تراحم المؤمنين و تعاطفهم ) (2586).
[21] ) لقاءان في طنجة :82-83.
[22] ) نفسه : 84.

هناك تعليق واحد:

  1. يا سلام حين ننطلق من الدين لتحليل والاستنباط فيكون معنلى العلوم ثمينا رائع ...ساقرؤها مرارا وتكرارا للاستفادة

    ردحذف