بسم الله الرحمن الرحيم
الشاعر عمر بهاء الدين الاميري مغربيا
وقفة مع كتاب :
''لقاءان في طنجة '' تاريخ..و فكر ..و شعر
نعم ذلك واقع، لأن شاعر الإنسانية المؤمنة الكبير الدكتور
عمر بهاء الدين الأميري [1] أقام في المغرب زمنا طويلا بلغ أكثر من عقد و نصف - على
الأقل - ، و كان أستاذا لكرسي الإسلام و
التيارات المعاصرة في دار الحديث الحسنية بالرباط ، كما درس الحضارة الإسلامية في
جامعة محمد الخامس بالرباط أيضا، فما المانع أن يكون مغربيا ؟!!
للشاعر كتاب بعنوان : لقاءان في طنجة - تاريخ ..و فكر ..
و شعر ، نشرته مؤسسة بنشرة للطباعة و النشر – الدار البيضاء ، عدد صفحاته 108
صفحة من الحجم المتوسط .
و الكتاب فيه شيء من التاريخ و قليل من الفكر ، و كثير من الشعر .يقول
الشاعر في بداية حديثه :''و الفكر، حين يتألق ويتفتق ... شعر ... و الشعر ، حين
يتعمق و يتفوق ... فكر'' [2]
.
و الذي يهمنا هنا عاطفة الشاعر الوطنية الجياشة التي فاضت بمناسبة إحدى
المناسبات الوطنية [3] ،
وقد اختلط فيها الجهاد بالنضالات بالذكريات بالصرخات التي ما تزال تتردد في أعماق
التاريخ تستنهض الهمم المعاصرة ، لاسترداد البقاع المغتصبة في أرجاء الوطن الإسلامي
:
يا بنـي
العــرب هل تـرون وراء الغيب ، دربا
ما عـاد بالمســـدود
صرخات الجهـاد في جنبات
الكــون تلقى منا حفــــــي الـردود
في ترامي الأصقـاع
تسمــــع "لبيك"
صدى من نجودنا و الوهــود [4]
و
يستحضر شاعر الإنسانية الفتوح الإسلامية ، بل يربط بها الأحداث التي تمر بها الأمة
الإسلامية ، و يقول بأن الأخيرة ضرب من ضروب الفتوح ، بل هي ممهدة لها :
إن أحداثنا الجسام لضــرب من
ضروب الإرهاص و التمهيد
و سيوف
الفتوح بعد ركـود تتمطى
نصولها في الغمـــود ...
سنة الله قد خلت في الطواغيت قديما
من قبل خلق ثمـــود
و ستبقى ما دام في الكون بغي فترقب
،يا شعب ،صدق الوعود [5]
لقد كان الشعب في مستوى المسؤولية
الملقاة على عاتقه ، و كانت الحركة الوطنية في الموعد ، و كانت الثورة الشعبية
التي توجت بالاستقلال الذي ناله المغاربة في 18 نونبر 1955 .
إن مصير الظلم إلى زوال ،
و مصير الاستعمار إلى اندحار ، و قد درست آثار الكثير من الإمبراطوريات المتجبرة
عبر التاريخ الطويل للإنسانية .
و قد سجل الشاعر الثورة
المغربية ضد المستعمر الغاشم ، و رفض المغاربة خلع سلطانهم ، و هو حينذاك محمد الخامس [6]
في أبيات جميلة في ذات القصيدة نقتطف منها :
خلع السلطان و السلطان طود لا يزعزع
من يكن في كل قلب عرشه هيهات يخلع
و إذا المغرب بحر غاضب لا يستقـــر
و إذا الثورة في الشعب جهاد مستحـرّ
و تتالى موكب المجد ، يضم الشهــداء
عزمات و دماء ، هاجها ثأر الدمــاء
و دنى الإسلام كالبركان يغلي و يفـور
و في اللقاء الذي نظمته
إحدى الجمعيات الناشطة في مدينة طنجة أنشد الشاعر الحاضرين قليلا من 'الروضيات'[8]
...قصائد النجاوي المحمدية ، على حد تعبير الشاعر ، و هي أبيات تفيض إيمانا و حبا
في المصطفى عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم ، و ابتهاجا بزيارة الروضة الشريفة ،
و البيات من بواكير شعره النبوي :
دخلت ،
و قلبي قد طار مـــني و
لكنه عاد لما دخلــــــت
دخلت
الرحاب و أسلمت نفسـي إلى تلف
الوجد حتى سلمـــت
و كان
المقام العظيم العظيـــم عليه
يخيم نور و صمــــت
فطوف
بي من جلال الرســول ذهول
...فهمت.. و همت ..وهمت
إنه سجود الروح لا الوجه ،
و لا الجسد ، الروح التي تعرج إلى باريها عندما تجد المقام الذي طالما تمنت الوصول
إليه ، إنه معراجها، لذلك كان المقام
عظيما عظيما ، و كان الهيام طويلا طويلا ، و التكرار هنا للمبالغة ، لقد عرجت
الروح إلى باريها في السماوات العلى رغم
أنها سجدت في الأرض ، لم تبارحها لحظة واحدة ، و لكنه جلال المقام و جلال الزمان ،
حيث الصمت يخيم على المكان النوراني ، الذي تفيض عليه سبحات ربانية تزيده جلالا و
إكراما .
و لا يريد العابد الساجد
في الحضرة الربانية مغادرة المكان ، بل
يستزيد و يتمنى لو أطال الإمام السجود ، بل يتمنى لو لم يرفع من سجوده ، حتى لا
تفارق صاحبنا لحظات اللقاء مع ربه و يعتب على الإمام إذا قطع عليه لحظات الوصال ،
لأنه في لحظات الهيام القلبي بين السماوات و الأجرام ، لأنه إن فعل ، إنما يجتث
قلبه من مكانه:
إنه التماهي في الزمان و
المكان ، و الذوبان في الفعل الذي يقوم به . إن السجود كما التوجه إلى الكعبة
المشرفة أثناء الصلاة ..أي صلاة !! و في الصلاة ، و منها السجود نتوجه بقلوبنا تجاه
الكعبة ، إنه ليس مجرد إقبال على بيت و
منطقة من أرض ، لمجرد مكانها المعين من خطوط الطول و العرض ...إنما
الكعبة الشماء في مذهبـــي قيمتها ليست بأحجارهــا
و
القرب من خالقها ، ليـس في تشبت المرء بأستارهـــا...
قدسية الكعبة ، في جمعهـــا أمتنا ، من كل أقطارهــا
و
أنها محور أمجادهــــــا و أنها مصدر أنوارهـــا
و كيف لا و هي محور الكون
بله محور أمجاد الأمة الإسلامية ، فكيف لا تهفو قلوب المؤمنين إلى زيارتها و
الطواف حولها كل حين .. كيف لا و البيت المعمور في السماوات العلى بإزائها .. كيف
لا و الله سبحانه و تعالى يباهي بالمطوفين بها الملائكة في الملأ الأعلى . من هنا
تأتي القدسية . و من هنا سعي المؤمنين إلى حج البيت الحرام و الصلاة فيه و تقبيل
الحجر الأسود - الذي قبله الرسول المصطفى عليه السلام و أزكى الصلاة – حيث يستمد
المرء طاقة روحية لا تغادره أبدا إلا إن كان من الأشقياء . أما إن كان من العشاق
الذين يعشقون الجمال و يتذوقونه، فإنه حينئذ يوقد قناديل النور الرباني في قلبه ،
يستنير بها في ظلمات الجهل المحيطة ، و المنتشرة في كل مكان ، للعبور إلى الله في
طريق العاشقين الوالهين :
ليس
بالعاشق من توقده اللذات وقـدا
إنما
العاشق من يحمل عبء الوجد جلدا
إنه
باعث أكوان بها يمضي مجـــدا
و قد تعرضت الأمة
الإسلامية -و ما تزال- في الكثير من
المواقع للعديد من النكبات، ما لو تعرضته أمة أخرى لصارت في خبر كان، و لكن الله
سبحانه و تعالى وعدها بالابتلاءات، و وعدها بالنصر المبين على أعدائها، إن هي صبرت
على ما ابتليت به، و أقامت الدين و نصرت
الله جل في علاه.
و يغوص بنا الشاعر قليلا في التاريخ ، و للإشارة فقد
افتتح الكتاب الذي بين أيدينا بشيء من التاريخ الحديث للمغرب[13].
و يشير إلى ما ابتليت به بلاده سوريا من حكم
الطغاة ، و يسجل الأحداث الدامية التي تعرض لها الإسلاميون في حماة و دمشق و غيرها من المدن في الثمانينيات من القرن الماضي في
قصيدة بعنوان "نجاوي سجينة" و التي مطلعها :
توزع فكري ، فلا يستقـر على أن أعماق روحي سكينـه
يقول - رحمه الله - :
أيا رب، "أمتنا"قد رماهــا بنوها
بشدق الرزايا رهينــــه
بحرمة عهدك: "حقا علينـا" و قد قلت َ:"كنتم" فكانت قمينـه
أجرها و أنجد ، فإن لم تجرها فمنذا يجير ...وينجد دينــــه؟
و ألهم بنيها هداهم ، و ثبت خطى سيرهم في دروب رصينــه
و حقق لهم صفة "المؤمنيـن" و ضع عهدهم في رقاب أمينــه
و لا شك أن الشاعر رحمه
الله تعالى ينفث شعرا، بل نارا تنبعث من أعماقه..لأنه يتحدث بما لم تستطعه الأرامل
و الأيامى و الأطفال اليتم الذين أصابهم القرح ، في ذلك
الزمن المر، الذي ما يزال مثل ما حدث في حماة ، يسام على كثير من العباد في الأمة
الإسلامية ، في الكثير من البلاد التي ابتليت بطواغيت من ورق سلطهم الاستعمار
عليها ، فجثمت على صدور أهلها و سقتهم من الذل و الهوان ما تعجز عن وصفه الألسن و الأقلام . فرحم
الله شاعرنا .
إن هذه الأحداث و مثيلاتها هي التي
تقعد الشاعر المرهف عن العمل ، و تجعله
طريح الفراش لأيام قد تطول ..يقول :
و الهم – يا للهــم - فـي قلبـي له وخز الرمــــاح
قالـوا : عليل ، قلت :
بــل و الله تثخننـي جــــراح
أنا في الجهـاد أخــــوض للإيمـان
معترك َ الكفـــاح
... قلبي العليل
هناك يكــدح في الهضاب و في البطــــاح
قد يرتمي جسمي ضنـــى ً و العزم لا يرمي الســـلاح [19]
إنها العزيمة ، و الهمة
العالية التي لا تروم راحة رغم المرض و الوهن الذي قد يصيب الجسم ، هي التي تحرك
الساكن البشري ، و إنه التفاعل مع الأحداث الجسام ، بل التماهي فيها ، و هو يعمل بحديث
النبي r: '' مثل المؤمنين في توادهم
وتراحمهم و تعاطفهم ،مثل الجسد ، إذا
اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى '' [20].
و قد أجاب من علق على هذه العاطفة القوية بقوله :
هل يستريح الحر يوقــر صدره العبء الــرزاح
يده مع المسكيـــن في الأرضين ، تسلكه النجاح
و جنانه ، خفق المنى العليا بمنبلج الصـــــلاح
و مدى تطلعه معــارج من سناً ، فوق الطمــاح [21]
إنها الهمة العالية في
شموخ و التي تأبى إلا التطلع إلى السماء العالية و ما عند الله تعالى ، و ذلك
ديدين الأنبياء و الصالحين و
الصحابة المجاهدين .. و قد كان سلفنا الصالح ذوي نفوس طموحة تواقة إلى المعالي
ترفض الدون ، و لا يسمح المقام بسرد قصصهم هنا .إن لقاء الله تعالى هو علاج ما بشاعر
الإنسانية المؤمنة الرقيق من أدواء :
هل في علاجك ما يغـذ خطاي
أستبق الصبــاح؟
حرر
بمكناس يوم فاتح ربيع الأول 1429هـ
* ثانوية النهضة التأهيلية مكناس - المغرب
[1] ) ولد و نشأ و
أنهى الدراسة الثانوية في حلب سوريا في الآداب و العلوم و الفلسفة .و قد درس الأدب
و فقه اللغة في كلية الآداب و العلوم الإنسانية بجامعة السوربون ، و الحقوق في
جامعة دمشق .كما درس علوم الاجتماع و النفس و الأخلاق و التاريخ و الحضارة في حلب
و دمشق . و تولى إدارة المعهد العربي الإسلامي
في دمشق . أسهم في انطلاقة العمل الإسلامي المعاصر، و اتصل بكثير من مراكزه، و تولى بعض مسؤولياته. شارك في الدفاع عن
القدس مع جيش الإنقاذ خلال حرب فلسطين عام 1379/1948. مثل سوريا وزيرا و سفيرا في
باكستان و السعودية و كان سفيرا في وزارة الخارجية السورية . أسهم في تأسيس
حركة'سورية الحرة' و كان رئيس الجانب السياسي فيها عام 1384/1953. اهتم بالقضايا
الثقافية و السياسية في العالمين العربي و الإسلامي . و حضر العديد من مؤتمراتها و لقي كبار علمائها و رجالاتها و مؤسساتها. في سنة 1386 دعي إلى المغرب
أستاذا لكرسي الإسلام و التيارات المعاصرة بدار الحديث الحسنية بالرباط التابعة لجامعة القرويين . و استمر في ذلك زهاء
خمسة عشر سنة . كما درس الحضارة الإسلامية في كلية الآداب و العلوم الإنسانية
بجامعة محمد الخامس بالرباط. و قد كان كذلك أستاذا زائرا في الكثير من جامعات
العالم الإسلامي من الجزائر إلى اندونيسيا . و قد كان عضو المجمع العلمي العراقي و
المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية في الأردن.
نظم
الشعر منذ بواكير عمره . و طبع أغلب أثاره الشعري و الفكري و ترجم بعض شعره إلى
لغات إسلامية و غربية . و أنجزت حول شعره بحوث و دراسات جامعية و يعرف في الأوساط الأدبية ب''شاعر الإنسانية
المؤمنة'' .
توفي
رحمه الله تعالى بالرياض بالمملكة العربية السعودية سنة 1413هـ - 1992م.
[2] ) الأميري ،
لقاءان في طنجة : 44.
[3] ) هي ذكرى 'ثورة الملك و الشعب' التي يخلد فيها
المغاربة ذكرى ثورتهم احتجاجا على نفي الاستعمار الفرنسي السلطان محمد الخامس سنة
1953 .
[6] ) محمد الخامس ( 1909- 1961م) سلطان (1927-1957) ثم ملك
المغرب (1957-1961) .
[8] ) نسبة إلى
الروضة الشريفة في المدينة المنورة ، و المقصود عنده قصيدة المديح النبوي .
[9] ) نفسه
: 49 .
[10] ) نفسه
: 50.
[11] ) نفسه :
56.
[12] ) نفسه :57.
[13] ) يتعلق الأمر بالزيارة التاريخية التي قام بها
السلطان محمد الخامس لطنجة و الخطاب التاريخي الذي ألقاه بها يوم الجمعة 20 جمادى
الأولى 1322هـ الموافق لـ11 ابريل 1947.
[14] ) لقاءان في طنجة : 63.
[15] ) يقصد حركة
المقاومة في فلسطين المحتلة من قبل الصهاينة .
[16] ) الصحراء
المغربية التي ما تزال ذيول الاستعمار تنهك الوطن الأم بمشكلتها .
و قد قال في موضع آخر من الكتاب نفسه :
سنوالي جهادنا في ''فلسطين'' نقيم الصلاة في ''أقصـــــــانا''
و نرد ''الصحراء للوطن الأم جهادا،
نحمي بذاك حمانــــا
....
حين تمضي ''مسيرة السلـــم خضراء'' خطانا حفية لا تدانى
فإذا الحرب قدرت ، في سبيل الله ، خضنا غمارها بدمانـــــــــا
في إشارة إلى المسيرة الخضراء التي قام بها المغاربة
تجاه الصحراء لتحريرها من الاستعمار الإسباني و التي كانت بتاريخ 06 نونبر 1975 (
ينظر لقاءان في طنجة :89) .
[18] ) لقاءان في
طنجة : 79- 80.
[20] ) متفق عليه .(
البخاري في الأدب (بابرحمة الناس و البهائم ) (10/367) و مسلم في البر و الصلة
(باب تراحم المؤمنين و تعاطفهم ) (2586).
[21] ) لقاءان في
طنجة :82-83.
[22] ) نفسه : 84.
يا سلام حين ننطلق من الدين لتحليل والاستنباط فيكون معنلى العلوم ثمينا رائع ...ساقرؤها مرارا وتكرارا للاستفادة
ردحذف